إنَّ ضياع اللغة منذرٌ بضياع هويّة أيّة أمّة، فهيَ وتدُ هويّتهم الموحّدة، لذلك تعمدُ كلُّ أمّة إلى تعزيز حضور لغتها القومية
سُئلَ القائد الألماني بيسمارك عن أفظع الأحداث التي وقعت في القرن الثامن عشر فأجاب “إنّ المستعمرات الإنجليزيّة في شمال أمريكا اتّخذت اللغة الإنجليزيّة لغة رسميّة”، في إشارة إلى أنّه كانَ يتمنّى أن تتّخذ هذه المستعمرات ذات الجاليات الألمانيّة الكبيرة اللغة الألمانيّة لغة رسميّة بدلًا من الإنجليزيّة حتّى يضمن ولاءها لألمانيا. ذلك أنّ اللغة هي التي تميّز الهويّة الثقافيّة لأمّة من الأمم، وتحدّد انتماء أفرادها. ومعظم الأمم تجمع بينها لغة واحدة تشكل الرابط الأقوى بين أفرادها، وينطبق ذلك على معظم أمم العالم، فتوصف الأمة بلغتها وتوصف اللغة بأمتها، مثل الصينية والفرنسية والعربية والبرتغالية والروسية والإسبانية، وهكذا.
وبما أنّ اللُّغة أداةٌ طيّعةٌ لسائر الأمم لنقل ثقافاتها وخزّانٌ لفكرها وآدابها وتاريخها فإنّها قد صارت موضع اعتزاز كلّ أمّة، ومن بينها الأمَّة العربيّة حيث تشكِّل اللغة العربية عاملًا أساسيًّا في تكوين أبنائها على المستوى الثقافي والفكري والنفسي ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً. ولا شكّ فإنَّ ضياع اللغة منذرٌ بضياع هويّة أيّة أمّة، فهيَ وتدُ هويّتهم الموحّدة، لذلك تعمدُ كلُّ أمّة إلى تعزيز حضور لغتها القومية. وليسَ أدلّ على ذلك ممّا شهدته اللغة العربيّة منْ تعزيزٍ جعلهَا من أقوى لغات العالم وأثراها مفرداتٍ وأدبًا؛ نثرًا وشعرًا. هكذا كانت اللغة العربية قبل الإسلام، وازدادت متانَةً باعتبارها لغة مقدَّسة، بها نزل القرآن العظيم فاتسع نطاقها ونطاق المعنيّين بها والحريصين عليها ليتجاوز أمَّة واحدة إلى كل الأمم التي اعتنقت الإسلام دينًا فأصبحت اللغة العربية لديْها لغة عبادة، وكتابها المقدس لا يتيسر فهمه حق الفهم إلا من خلال فهم اللغة العربية. وربما كان ذلك من الجوانب التي تتفرد بها اللغة العربية ولا تضارعها في ذلك لغات كثيرة.
ويشهدُ التاريخ على انتشار اللغة العربية مع الفتح الإسلامي، وأشير بصورة خاصة إلى المكانة التي كانت للغة العربية عندما كان العرب في أوج ازدهارهم في الأندلس، حيث انتشرت الجامعات والأدب والفن والموسيقى والمعمار العربي المميز بينما كانت أوروبا آنذاك تئن تحت وطأة العصور الوسطى وتعاني الانحطاط وسيطرة الكنيسة. وكان رجال الملك والحكام والنخبة يرسلون أبناءهم للتعلم في الجامعات العربية باللغة العربية في الأندلس. وكان العلماء كابن رشد والخوارزمي وغيرهم معروفين في أوروبا وأرسو ركائز نهضتها. ثم انتكست الأمور وسقطت الأندلس وبدأ عصر الاستعمار الغربي للدول العربية ومعه تراجعت اللغة العربية، فضعفها وقوتها مرتبطان ارتباطًا وثيقًا بضعف أمتها وقوتها، فهي بقوتها تقوى، وبضعفها تضعف.
وانقلبَ الأمر مع انقلاب علاقة الغالب بالمغلوب، وصار العرب يشعرون بضرورة تعلم لغة الغالب وحلّت التكنولوجيا وسيطر الغرب اقتصاديّا وسياسيّا على العالم العربي، وأصبح الكثير من العرب يدرِّسون اللغة الإنجليزية لأبنائهم كمتطلَّب من متطلَّبات التوظيف والتعامل مع التكنولوجيا. وفي الدول العربية ذات الكثافة السكانيّة المتوسطة أو المرتفعة كالسعودية أو مصر أو العراق أو سوريا وغيرها، استطاع العرب الصُمود نسبيًا أمام تحديات اللغة، لكن الوضع يختلف في الدول المنخفضة الكثافة السكانية كقطر والإمارات والكويت التي قد لا تتجاوز نسبة مواطنيها ٢٠ بالمائة من العدد الإجمالي للسكان، بينما ينتمي الباقون إلى دول مختلفة حول العالم. لذلك تعالت الأصوات تحُذّر من الأخطار المُحدّقة باللغة العربية.
ونحن في قطر نحرص كل الحرص على انتمائنا العربي وارتباطنا بهذه اللغة التي تمثل ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، ونشعر كدولة وكمواطنين بالخطر الذي تتعرَّض له هذه اللغة العظيمة، وندرك أنَّ علينا مسؤولية تجاه انتمائنا وتاريخنا لنتّقيَ المخاطر التي تواجهها اللغة العربيّة، وخاصة مع انتشار الجامعات والمدارس الأجنبية التي اقتضتها مسيرة التنمية والتفاعل مع التطور العلمي والاقتصادي والسياسي الذي لا يمكن تجاهله.
ولذلك أقدمت الدولة على إصدار القانون رقم 7 عام 2019 الذي يفرِض على الجميع الالتزام باللغة العربية في التعامل والاجتماعات، ويفرض عقوبات على من يخالف القانون.
والقانون ممتاز من حيث المبدأ ومن شأن تنفيذه أن يساهم مساهمة فعالة في تعزيز حضور اللغة العربية في المجتمع، لكنه لم يُفعَّل تماما بحيث يحقق الأهداف المنشودة منه.
ومن هنا كان من أوائل القضايا التي انتبه لها مجلس الشورى المنتخب قضية التحديات التي تواجهها اللغة العربية. وقد دُعيت للاشتراك في الجلسة العامة المخصصة لهذا الموضوع. وبيَّنت بشكل قاطع أنَّ اللغة العربية تشكل “أمننا الثقافي”، وتجاوب الجميع مع هذا الطرح ووجد صدىً كبيرًا لدى الرأي العام في وسائل الإعلام التقليدية والرقمية، ولا يزال الأمر محل حوار ونقاش.
إنَّ اللُّغة العربية بالنسبة لنا ليست أداة تواصل فحسب، بل هي هويتنا وهي ماضينا الذي يختزن تراثنا وتاريخ أجدادنا، وهي لغة عقيدتنا التي لا تكتمل عبادتنا دونها، وهي مستقبلنا التي بدونها نفقد ما يميّزنا وما يربطنا بماضينا، وهي حاضرنا الذي بدونه لا نوصف بأمة.
ومن البداهة القول أنّ اللغة العربية قد أثَّرت وتأثَّرت باللغات الأخرى، بلْ إنَّ تأثيرها كانَ أكبر في لغات عديدة في العالم، إذ تُكتب لغاتٌ عدّة بحروف عربيَّة وتحتوي على عدد لا يُحصى من المفردات العربية كالأردية والفارسية والسواحلية، وهناك لغات أخرى تتضمن آلاف المفردات والتراكيب العربية كالإسبانية والبرتغالية والمالطية، كما تأثرت بها اللغات الهندو-أوروبية الأخرى ولكن بنطاق محدود.
لذا فتأثير اللغة والثقافة العربية قد انتقل إلى لغات وثقافات عدة في العالم. والدعوة إلى المحافظة على اللغة العربية لا تعني بأي حال عدم تعلم اللغات الأخرى، فبالإضافة إلى أن تعلّم هذه اللغات صار ضرورة تقتضيها التطورات العلمية والاقتصادية وتحول العالم إلى قرية كونية، فإنَّ اللُّغات في نهاية المطاف كائن حيّ تتفاعل وتتداخل وتؤثر في بعضها بعضًا؛ هكذا كان الأمر عبر التاريخ، وهكذا يجب أن يستمر.
إن القلق الذي ينتابنا على لغتنا العربية والخوف الذي يعترينا من تأثير اللغات الأجنبية عليها، وبالذات الإنجليزية، ليس قلقًا مقصورًا علينا، بل إن الفرنسيين والألمان والإسبان وغيرهم ينتابهم القلق ذاته، ويتَّخذون من الإجراءات ما يحافظون به على لغاتهم الوطنية من الضعف أو الضياع.
ومنذ عام 1973 أصبحت اللغة العربيّة من لغات الأمم المتحدة الرسمية، إلى جانب الإنجليزية والفرنسية والروسية والإسبانية والصينية، الأمر الذي أكد عالميتها وقوتها، ويستوجبُ المحافظة عليها وإدراك أهميتها. وبالنسبة للجاليات العربيّة التي تعيش في الخارج وتتعرّض لغة أُسَرِها للضياع، عليها أنْ تدرك كلّ هذه الأبعاد للغة العربيّة وتحرص على تعليم هذه اللغة العظيمة لأطفالها لأنّها تُمثّل التزامهم بماضيهم ومستقبلهم.
الدكتور حمد بن عبد العزيز الكوّاري وزير الدولة ورئيس مكتبة قطر الوطنيّة.
تابع “دوحة نيوز” عبر منصاتها على تويتر، انستغرام، فيس بوك و يوتيوب