بالنسبة لمنطقة كثيراً ما تدعو إلى التسامح وحرية التعبير، من المفارقة أن الغرب يحاول اليوم فرض قيوده على ما نؤمن به، ويتدخل في اختياراتنا للطريقة التي نريد أن نعيش حياتنا بها.
تحوَّل الشرق الأوسط على مدى العقود الأخيرة إلى ما يشبه حلبة مصارعة لوسائل الإعلام الغربية، وتلقى العديد من الضربات غير المبررة. فباتت الإساءة الدائمة للعرب والإسلام أمراً شائعاً ومُعتاداً، لدرجة أننا في كثير من الأحيان ننسى حقنا في اتخاذ موقف حاسم.
في السنوات الماضية بشكل خاص، عانت قطر تحديداً من وطأة هذا النقد اللاذع. وهي تتعرض للهجوم بشكل مستمر تحت شعارات ومسمّيات غامضة، ويتم تحميلها مسؤولية المعاناة الإنسانية التي لا ينبغي أن تُلقى على كاهل دولة قطر بأي حالٍ من الأحوال.
هذه ليست محاولة لرسم صورة مثالية لبلادي، أو حتى لسرد العديد من المواقف المشرِّفة التي تتخذها الدولة وتبادر بها على مر السنين. بل على العكس من ذلك، هذا المقال هو تذكير بعدم وجود دولة مثالية.
فلنواجه الحقيقة، إذا كان الوضع كذلك، فلن يكون العالم كما هو عليه اليوم.
صحيح أن هناك قضايا في قطر قيد المعالجة؛ لكن حان وقت اتخاذ موقف حازم ضد المعايير المزدوجة الواضحة والنفاق المتعمَّد فيما يتعلق بمثل هذه الانتقادات المتعمدة.
انتقاد للآراء غير “المثقفة” في قطر
بالنسبة لكأس العالم لكرة القدم هذا العام، أعربت 8 دول بقيادة إنجلترا عن خططها لارتداء شارة “One Love”، وهي خطوة للاحتجاج على موقف قطر من حقوق المثليين. تزامناً مع ذلك، انتقدت وسائل الإعلام الألمانية الدولة الخليجية، ووصل الأمر إلى حد ملاحقة سفير الدوحة في برلين.
من ناحية أخرى، انتقدت وسائل الإعلام العالمية المختلفة، بدايةً من المملكة المتحدة ووصولاً إلى دول أخرى من أوروبا، دولة قطر بصورة مستمرة، وقد تفاقم هذا الأمر في الأسابيع الأخيرة تزامناً مع اقتراب موعد البطولة.
هذا يطرح العديد من الأسئلة، من بينها مثلاً: هل حاولت أي من وسائل الإعلام تلك فهم الأبعاد الاجتماعية والسياسية الخاصة بنا في المنطقة؟ هل زاروا قطر أو حتى زاروا الشرق الأوسط من قبل؟ هل كونوا آراءً مبنية على الخبرة والمعرفة، أم أنهم فقط يرددون عناوين الأخبار والكلمات المبتذلة لإثارة الضجة والجدل؟
عندما تم إقامة كأس العالم فيفا لعام 2018، لم يكن هناك أي أداء منسق لدعم قضايا حقوق المثليين، على الرغم من موقف روسيا الرافض بشكل واضح وصريح لهذه المسألة.
بالتأكيد، إذا كان العالم قلقاً بشكل صادق، فقد كان من المفترض رؤية مثل هذه الاحتجاجات قبل وأثناء البطولة في روسيا، حيث تم استهداف الكثير من داعمي حقوق المثليين والاعتداء عليهم بشكل منتظم آنذاك.
لكن خلال عام 2022 الجاري، تعني استضافة قطر لكأس العالم لكرة القدم إقامة البطولة في منطقة الشرق الأوسط لأول مرة في تاريخها.
هذه ليست لحظة تاريخية للدولة والمنطقة فحسب، ولكنها أيضاً إنجاز كبير للفيفا وكرة القدم وعالم الرياضة بأسره.
غني عن القول أيضاً إن كرة القدم هي رياضة عالمية لا ينبغي أن تنتمي إلى بلد أو ثقافة أو دين محدد دون الآخر. إذ يقوم العرب والمسلمون بالاستمتاع بمشاهدة اللعبة، والمشاركة بفاعلية في الرياضة بدون أي قيود.
يظهر هذا في جميع أنحاء المنطقة، على أسطح ناطحات السحاب في المدن البراقة المتقدمة، وكذلك على أرضية الملاعب المؤقتة في القرى الجبلية البسيطة.
يستحق هؤلاء المشجعون الاستمتاع بكرة القدم على أرضهم دون أن يتعرضوا للهجوم من قبل لاعبي كرة القدم الذين كما يبدو لا يهتمون إلا بالترويج لحملتهم على أرض الملعب، فيما يبدو بوضوح أنه أسلوب لادعاء الفضيلة في أحسن الأحوال.
لنتحدث قليلاً عن مستوى المعايير المزدوجة
في ضوء الغزو الشنيع لأوكرانيا، حظر الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) روسيا من المسابقة. وتُعد هذه هي المرة الأولى التي يتخذ فيها الفيفا مثل هذه الإجراءات المشددة المتداخلة مع تطورات عالم السياسة.
كما أنها المرة الأولى التي تسمح فيها المنظمة بعدد من الفعاليات الاحتجاجية الواضحة على أرض الملعب، مثل ملابس فريق دولة الدنمارك الذي تم الكشف عنه مؤخراً وقد تم تعديل تصميمه ودرجة لونه في انتقاد لسياسات دولة قطر فيما يتعلق بحقوق العمال.
وهو الموقف الذي من المفترض أنه يتعارض تماماً مع القانون الرابع من لوائح الاتحاد الدولي لكرة القدم. وبالتالي على أي أساس يقرر الفيفا أي أعمال حول العالم هي وحدها التي تُعد شنيعة بما يكفي للإشارة إليها وإدخالها في عالم الرياضة النظيفة؟
هل مثلاً سيُسمح باحتجاجات مماثلة ضد الولايات المتحدة التي من المقرر أن تشارك في استضافة بطولة كأس العالم المقبلة؟ هل سنكتشف قريباً ما إذا كان مئات الآلاف الذين قُتلوا في الحرب الأمريكية في العراق أو أفغانستان يستحقون مثل هذا الاهتمام والتضامُن؟
وفقًا للعناوين الرئيسية عبر وسائل الإعلام الغربية، فإن القضية المركزية والجوهرية لهذه البطولة التي تقام في قطر، هي معاملتها للعمال المهاجرين.
سامحوني على التشكيك في نوايا الدول الأوروبية، لكنها هي ذاتها الدول التي وقفت طوال العقد الماضي تشاهد المهاجرين يفرون من الصراعات والدمار والفقر، ليغرقوا في قاع البحر الأبيض المتوسط أثناء محاولتهم الوصول إليها لنيل فرصة جديدة في الحياة.
ما هي حقوق المهاجرين التي يتحدثون عنها عندما يكون الرجال والنساء والأطفال الضعفاء إما محبوسين في أقفاص في مخيمات لاجئين غير إنسانية على أراضيهم، أو يتم إعادتهم إلى نفس الأراضي التي فروا منها هرباً من الموت والحروب بقرارات من دولهم؟
هل سيحظر الفيفا إسرائيل إثر احتلالها غير الشرعي على مدار عقود طويلة للأراضي الفلسطينية؟ هل الفصل العنصري الإسرائيلي واضطهاد الفلسطينيين شائن بما يكفي؟ أو كأقل القليل، ألا يستطيع الفيفا ببساطة السماح للاعبين المؤيدين لفلسطين بارتداء الألوان الأربعة للعلم على أرض الملعب، مثلهم مثل غيرهم من الداعمين للقضايا الأخرى؟
الأسئلة كثيرة والإجابات معروفة. للأسف، هذا هو المعيار المزدوج النموذجي الذي يتوقعه ويمارسه الغرب تجاه الشرق الأوسط، لا سيما في حالة قطر وكأس العالم لعام 2022.
عبر وسائل الإعلام الغربية، تحمل المقالات نفس اللهجة الحادة والمتعالية، مع لغة مليئة بالغضب وأنصاف الحقائق التي تُستخدم فقط لإثارة الجدل والوقيعة في محاولة لإحداث الانقسام.
هذا الضغط، على الرغم من تنكُّره في صورة هجوم بنّاء، تم تصميمه في الواقع بطريقة تجعل قطر محكوم عليها بالفشل ومواجهة الانتقادات الجماعية، بغض النظر عما تفعله أو تتخذه من قرارات.
الحقيقة هي أنه يتم بذل القليل جداً من الجهد -إن بُذل من الأساس- في كتابة مثل تلك المقالات قبل نشرها، لأن الخبر بالنسبة لهم يكمُن في العناوين الصفراء المُحرِّضة والمثيرة للضغائن.
لا يتطلب الأمر عبقرياً فذّاً أو مثقفًا وأكاديمياً متخصصاً لفهم الأدوات التي يتم استغلالها اليوم لمهاجمة قطر، وهذا يحدث حتى من جانب الدول التي تحب أن تطلق على الدولة الخليجية لقب “الحليف” و”الصديق”، بينما هي في الواقع تبحث عن مصالحها فقط.
يمكنني أن أقتبس مقولات لعدد من علماء النفس والشخصيات المؤثرة في التاريخ الذي ناقشوا قوة تكرار الأكاذيب بصورة مستمرة على مسامع الجماهير، ومخاطر الدعاية الكاذبة، وكذلك حول القوة المطلقة لـ “وهم الحقيقة” الذي تمارسه وسائل الإعلام الغربية.
لكن هذه كلها مفاهيم مألوفة لجمهور تلك المنصة، الذين يواجه منذ أكثر من عقد وحتى الآن مستوى غير مسبوق من الإسلاموفوبيا من جانب العالم الغربي في أعقاب حربه الوحشية على “الإرهاب”.
غياب الاحترام
يمكن اختصار كل ما سبق في كلمة واحدة. الاحترام.
فالاحترام كلمة جميلة، دائماً ما تكون أكثر تأثيراً عند وضعها موضع التنفيذ.
وتتضمَّن اللغة، خاصةً الطريقة التي تخاطب بها الآخرين وتتحدث بها معهم، قدراً كبيراً من الاحترام.
إنها السمة الوحيدة الأكثر أهمية التي تسمح للأشخاص من مختلف المعتقدات والخلفيات بالانخراط في خطاب صحي ومفيد، دون اللجوء إلى الحدة والعنف.
يمكن أن يكون لشعوب العالم آراء ومعتقدات مختلفة، طالما أنها لا تنتهك حقوق الإنسان الأساسية للآخرين.
ومع ذلك، يُعد هذا أمراً مفقوداً في الخطاب الحالي الذي يستهدف قطر، التي قبلت عيوبها وحشدت طاقاتها ومقدراتها لمعالجة المخاوف على مر السنوات. حتى أنها دعت منظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة إلى إنشاء قاعدة لها في الدوحة لمعالجة القضايا الحساسة على أرض الواقع.
لدرجة أن رئيس الفيفا جياني إنفانتينو قال إن الأمر استغرق بضع سنوات فقط من قطر للقيام بما استغرق مئات السنين في أوروبا.
لكن بالرغم من ذلك، استمرت الدول الغربية في حُكمها المغلوط على مجتمعات الشرق. ومع أنها تدعو دوماً إلى التسامح وحرية الكلام والتعبير، فمن المثير للسخرية أنها تحاول اليوم فرض قيود على ما نؤمن به، وعلى اختيارنا للطريقة التي نرغب في أن نعيش حياتنا وفقاً لها.
في المقابل، يُقاس تسامح الشخص واحترامه بموقفه تجاه الأشخاص من المعتقدات والأديان والثقافات المختلفة تماماً عنه.
لذلك أدعو الناس إلى النظر عن كثب إلى قطر باعتبارها واحدة من أكثر الدول عالمية في العالم، إذ استطاع البشر من جميع أنحاء العالم أن يصنعوا منزلاً لعوائلهم فيها، وعاشوا على أرضها في تناغم منذ عقود، وتمكنوا من احترام ثقافتنا وطريقة حياتنا وتقاليدنا دون مشاكل.
اليوم، تفصلنا أسابيع قليلة عن كأس العالم، وستقام البطولة باعتبارها لحظة تاريخية لبلدنا وشعبنا. وستجمع اللعبة الجميلة في النهاية العالم كما هو متوقع. لكن في الوقت الحالي، كل ما نطلبه، عزيزتي أوروبا، هو القليل من الاحترام، وبعض التسامح الذي كثيراً ما تعظين به.
غادة الخاطر فنانة قطرية متعددة التخصصات، وهو مصطلح يجسد بشكل دقيق نهجها في الجمع بين الفن والسياسة والشؤون الاجتماعية في الرسوم الكاريكاتورية والرسوم التوضيحية والمنحوتات.
يتناول عملها التعليقات الاجتماعية والسياسية على شؤون مجلس التعاون الخليجي والشؤون الدولية الأخرى ذات الصلة.